الدكتور أحمـد علي سليمـان يكتب : معركة بدر.. يوم الجراءة والبسالة والجسارة
من الأيام التي خلدها التاريخ الإسلامي وكتبها بمداد من نور , يوم بدرٍ يوم الشجاعةِ والجراءةِ والبسالةِ والجسارةِ.. يوم أعز الله فيه أهلَ الحقِ على قلتهم، وخذل فيه أهلَ الباطلِ على كثرتهم.. أراد المشركون أن يستخفوا بالمسلمين ويستفزونهم؛ فأمروا قافلتهم بأن تتخذ من حمى المدينةِ طريقًا لها، وكانت مِن قبل تتخذ ساحل البحر طريقًا لذهابها وإيابها.. فكان ذلك استخفافًا واستفزازًا واستباحةً لحرمة عاصمة المسلمين بعد أن أخرجوهم من ديارهم وتآمروا على قتل رسولهم (صلى الله عليه وسلم) فخرج المسلمون يريدون اعتراض هذه القافلة، وما كانوا يريدون قتالاً، ولكنهم أرادوا أن يحاصروها حصارًا اقتصاديًّا، ومن ثَمَّ يضربوا المشركين في أعز شئ إليهم وهو المال، حيث كانت القافلة تتكون من ألف بعير موقرة بالأموال، لا تقل قيمتها عن خمسين ألف دينار ذهب، ولم يكن معهم إلا أربعون رجلاً فقط.. وعلى الرغم من حصار المسلمين فإنهم قد استطاعوا الإفلات بأموالهم.. حينها أَخَذَ أبو جهل -لعنه الله- يُحَرِّض المشركين على قتال نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، واستطاع أن يستنفر منهم ما يزيد على ألفٍ من المشركين، فتغير وجهُ العمليةِ تمامًا.. المسلمون يريدون حصارًا فقط.. والمشركون يريدون صداما وقتالاً، أرادوها حربًا ضروسًا لا هوادة فيها..
فهل يخوض الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعركةَ دون أن يأخذ رأي أصحابه، مع أنه لو فعل ذلك ما كان عليه لوم لأنه معصوم مِنْ الخطأ، أم ماذا يفعل..؟! أراد أن يرسي في أصحابه مبدأ الشورى.. فقال لهم: أشيروا على أيها الناس, فوقف أبو بكر وعمر وقالا : خيرًا يا رسول الله، ووقف المقداد بن عمرو وقال: “يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون..” وكان هذا رأي قادة المهاجرين، فأحب أن يعرف رأي قادة الأنصار، فقال أشيروا عليَّ أيها الناس، ففطن إلى ذلك قائدُ الأنصارِ سعدُ بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال: “قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردتَ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بِنَا هذا البحر فخضتَهُ لخضناه معك، ما تخلفَ منَّا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بِنَا عدوا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك مِنَّا ما تقر به عينُك… يا رسول الله: سَالِم مَنْ شِئْتَ وعادِى مَنْ شِئْتَ وصِل حبال مَنْ شِئْتَ، واقطع حبال من شِئْتَ، وخُذْ مِنْ أموالِنا ما شِئْتَ، وأبق لنَا مَا شِئْتَ، والذي بعثك بالحق إن الذي تأخذه مِنْ أموالِنَا أحب إلينا مما تتركه لنا..”
وفي هذه اللحظات الحاسمة تهلل وجهُ النبي (صلى الله عليه وسلم) فرحًا وبشرًا وسرورًا؛ ومن هنا شَرَعَ النبي (صلى الله عليه وسلم) في تنظيم صفوف جيشه وتجهيزه، وهو يعلم أنَّ ميزانَ القوى غير متكافئ، فجيشُ المسلمين يتكون من ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، ومعهم فرسان وسبعون بعيرًا فقط، وكان الثلاثة يتبادلون الركوبَ على بعيرٍ واحدٍ. أما جيش المشركين فكان ثلاثة أضعاف جيش المسلمين ومجهزًا بالعدة والعتاد.. ولكنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين موقنون بأنِّه لا عبرةَ بالعدد والعدة والعتاد إذا كان معهم ربهم وخالقهم.. وأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يحثهم على القتال، ويبث فيهم الصبرَ والثباتَ، وتضرع إلى ربه قائلا: (اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم اللهم إنهم جياع فأشبعهم..) (أخرجه أبو داود في سننه)
فاستجاب الله تعالى لدعائه (صلى الله عليه وسلم) فغشي النعاسُ المسلمينَ ليلةَ المعركةِ، أمنة منه حتى يستريحوا مما نالهم من جهد وعناء.. فأصبحوا كالأسود الضارية في ساحة الوغى. وأمر الله السماء لتنـزل ماءها؛ لتلبد الأرض تحت أقدام المسلمين، ويطهرهم، ويذهب عنهم رجس الشيطان، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) (الأنفال:11). وفي الصباح بدأت المعركة ببعض المبارزات، ثم اشتدت، وحمى وطيسها ولكنَّ الله تعالى أيَّدَ عبادَه المؤمنين، وبَثَّ الرعبَ في قلوب أعدائهم, والرسول (صلى الله عليه وسلم) متشبث بحبال السماء، متضرع إلى الله جلَّ في علاه، وأبو بكر يقول له: هوِّن عليك يا رسول الله، إنَّ الله منجز لك ما وعد، ويستيقظ النبي (صلى الله عليه وسلم) من إغفائة ويقول: (أبشر يا أبا بكر) فيقول: مثلك لا يبشر إلا بخير يا رسول الله، فيقول (صلى الله عليه وسلم) : (إني أرى جبريل الآن أخذًا بعنان فرسه يقود ألفًا من الملائكة مع المسلمين..). يقول تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9). وهكذا تغيرت مجريات الأمور تمامًا،، ورَّد الله كيدَ المشركين في نحورهم.. وكان النصر للمسلمين من رب العالمين، يقول تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:17) حتى قال أبو جهلٍ لعبد الله بن مسعود: لقد كُنَّا نرى سيوفًا تهوي علينا ولا نرى من يضربنا، فقال: إنهم ملائكة الله يا عدو الله.
وهكذا هُزمت دولةُ الشركِ، ورجع المسلمون بنصرٍ مظفرٍ من رب العالمين، وهامة عالية، وسطع نورُ الإسلامِ، ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا.. ومن هنا ينبغي علينا ونحن نحتفل بهذه الذكرى الخالدة، أن نأخذ منها الدروس والعظات والعبر، ونوقن بأنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنه لا عبرة بعدد عدونا وعدته وعتاده إذا كان معنا الله … ومن ثَمَّ نبث الأمل في قلوب المستضعفين في فلسطين وفي كل مكان مغتصب من أرض المسلمين، ونقول لهم: إذا لجأتم إلى الله -تعالى- فلن يترككم أبدًا.